فى الوقت الذى تتصاعد فيه وتيرة الصراعات والنزاعات العالمية، فى ظل هيمنة نظام لا يزال أحادى القطبية يقوده الغرب، تشهد السنوات الأخيرة تحولات تشير إلى تضاؤل هذه الهيمنة مع وجود لاعبين رئيسيين على الساحة الدولية مثل الصين التى تمثل قوة اقتصادية وعسكرية، وتشوب علاقاتها مع الولايات المتحدة لهذه الأسباب توترات متزايدة، وكذلك الحال مع روسيا والتأثير على أوروبا الشرقية، والهند فى جنوب آسيا، وتركيا فى البحر المتوسط والشرق الأوسط الذى يستمر الصراع فيه، ليصبح ساحة تنافس بين القوى المختلفة، خصوصًا فى ظل الحروب السيبرانية التى صارت واحدة من أدوات الصراع، مع تزايد الهجمات الإلكترونية، التى أسهمت فى تعزيز انعدام الثقة بين الدول على مستوى العالم، بما يشير نحو تهديد الأمن العالمي. وعلى الرغم من هذه الصراعات السياسية المحتدمة وتقاطع المصالح بين القوى، فإن هناك تهديدات عالمية أكبر لا يمكن إغفالها مثل ما يحدث من تحولات فى النظام البيئى والتغير المناخى الملحوظ، والذى فرض نفسه كإحدى القضايا المؤثرة على الأمن والاستقرار الدوليين، حيث إن أزمات البيئة من شأنها خلق ضغوط داخلية، تؤثر بطبيعة الحال على الاستراتيجيات الخارجية للدول، ليقف العالم أمام حقيقة كبرى لا يمكن إنكارها، وهى أن التعاون هو اللغة الأولى المطلوبة، مع ضرورة تحييد الصراعات أمام قوى الطبيعة، ولابد من تكثيف الجهود التعاونية التى يجب ألا تعرقلها توترات جيوسياسية، والسؤال: هل يعى النظام العالمى هذه الضرورة المُلحة؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تقودنا إلى حالة التأخر والتراجع فى التفكير على المستوى العالمى، فى الوقت الذى تدعى فيه القوى الكبرى امتلاكها زمام التطور ومواكبة تحديات المستقبل، حيث إن الصورة تقول غير ذلك تمامًا وتؤكد حقيقة وجود «التفاهة» كقيمة مقابلة تفرض نفسها على سلوك النظام العالمى، الذى يحتاج إلى تعدد قطبى حقيقى ينتج عنه توازنات فى العلاقات الدولية، وبناء تحالفات استراتيجية مرنة تراعى مصالح الجميع، وتواجه معا المخاطر المحتملة.

هذا التغافل والاستهتار ووضع فكرة الصراع فى مقدمة أولويات الدول الكبرى، انسحب بصورة كبيرة على الممارسات المجتمعية، وصار هناك نوع من التوحش فى سباقات التفاهة التى وجد الكثيرون أنفسهم لتحقيق ذواتهم فى رحابها، مثل طغيان عالم السوشيال ميديا على العلم والمعرفة، وإغراءات تحقيق الثراء السريع والفاحش على حساب الكفاح والعمل وإنجاز الأبحاث الجادة لمواجهة التحديات المحتملة والقائمة. وخطورة مثل هذا الأمر ليست مرهونة بوقتها الآنى، ولكن الخطورة الأكبر هو تصاعد أجيال من الطفولة نحو الصبا والشباب على هذه القيم الجديدة، فالمتابعون للأحداث العالمية سريعا ما يفقدون الثقة فى عالم السياسة التى تنافى معناها على مستوى الممارسة، ويلجأون إلى إثبات النفس، عبر عمليات مشوهة وصعود وهمى فى نظام عالم «معولم»، يسقط قيم الانتماء للمكان والوطن عبر محددات ومفاهيم عليا كالوطنية، لمصلحة قيمة المصلحة الشخصية، وبالتالى تسقط فكرة الاقتصاد الوطنى عبر علاقات متوازنة ومتكافئة بين الدول أمام الثراء الذاتى، ومن ثم زوال مفاهيم أخرى مثل الديمقراطية، فى محاولة للتخلص من التبعية طالما وجدت القدرة الوهمية على التحقق الفردي. ولا سبيل حقيقيا للتخلص من وطأة «التفاهة» التى تعترى النظام العالمى، إلا بالعمل على تطوير مشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية بالتوازى وتقليل الفجوات والفوارق الطبقية التى تبرز صورتها الكبرى فيما نراه على المستوى العالمى من أطماع القطبية كآفة قائمة عبر التاريخ.

Add Your Comment