بعد الخروج عن النص وتصريحه السابق بامتلاك الولايات المتحدة الأمريكية لقطاع غزة وتحويله إلى منتجع أمريكي وتهجير سكان القطاع إلى سيناء والأردن ودول أخرى، ومن بعده القرارات العنترية غير المسئولة برفع الرسوم الجمركية على سلع الدول، التي نتج عنها حرب تجارية واقتصادية شرسة بين واشنطن وبكين، وفي تطور جديد للتصريحات “الاعتباطية” وفي خروج جديد عن أي نص يمت للعقل، وعلى إحدى المنصات قال الرئيس الأمريكي العائد بالخيبات دونالد ترامب، إنه يجب السماح للسفن التجارية والعسكرية التابعة لأمريكا بالمرور عبر قناتي السويس وبنما دون دفع أي رسوم، ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف أنه طلب من ماركو روبيو وزير الخارجية بأن يتولى هذا الأمر فورًا”.

ويعتبر ترامب في تصريح ـ على الرغم من خطورته ـ فإنه مضحك، أن القناتين ما كان لهما أن توجدا لولا الولايات المتحدة، فإذا كان هذا الـ”ترامب” ابتلاءً ابتليت به الأرض، ليناوش هذا ويستفز هذا بتصريحات وقرارات لا تصدر إلا من فاقد عقل، فإن “شر البلية ما يضحك”، ليس فقط لأن فكرة إنشاء القناة في مصر وجدت في الحياة قبل الوجود الأمريكي بآلاف السنين مع سنوسرت الثالث خامس ملوك الأسرة الثانية عشرة، الذي حكم في الفترة من 1878 حتى 1839 قبل الميلاد، وتجددت الفكرة في العصر الحديث عام 1798، أي بالتوازي تقريبًا مع وجود أمريكا كـ”مستعمرة”، بل إن قناة السويس قد سبقت تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية نفسها كدولة حديثة، ليس لذلك فحسب، وإنما الضحك يخفي حنقًا كبيرًا على هذه التصريحات المستفزة تجاه السيادة المصرية، وفي أثمن ما تملك مصر، بالإشارة لسيناء سابقًا، ولقناة السويس هذه المرة، وكلاهما مرتبط بتضحيات تاريخية بمثابة المقدسات في روح ونفس كل مصري، سواء سيناء التي ارتوت بدماء أبناء مصر، فاستردوها بالإيمان والعزيمة وعشق الوطن من المحتل الغاشم في ملحمة العبور العظيم التي كانت فيها قناة السويس شاهدًا، ولم تزل، على تاريخ من المجد، وهي التي حفرت أيضًا بعرق ودماء وسواعد أجدادنا.

ولا ينسى أي مصري الملحمة التاريخية المرتبطة بتأميم القناة في السادس والعشرين من يوليو لعام 1956، حين أعلن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر من ميدان المنشية بالإسكندرية قرارًا تاريخيًا وعالميًا، بتأميم شركة قناة السويس، وكانت أمريكا قبل ذلك قد سحبت عرض تمويل السد العالي، وتبعها البنك الدولي، وبريطانيا التي قدمت على إثر قرار التأميم احتجاجًا رفضه الزعيم الراحل؛ لأن التأميم عمل من أعمال السيادة المصرية.

وربما قد يكون هناك مبرر ما بالنسبة لتصريح ترامب حول قناة بنما، وقد أتمت أمريكا بناءها أوائل القرن العشرين، بتكلفة بلغت نحو 380 مليون دولار، لتمنح السيطرة عليها ـ فيما بعد ـ إلى بنما عام 1999، وهي في الواقع ممر مائي إستراتيجي ومهم، حيث تمتد بطول 82 كيلومترًا، وتربط بين المحيطين الأطلسي والهادي، الأمر الذي يسمح للسفن بالتنقل بسرعة أكبر بين المحيطين، لذا تعد واحدة من أبرز القنوات المائية الاصطناعية في العالم، وثاني أهم قناة بعد قناة السويس، ويمر فيها نحو أربعة عشر ألف سفينة سنويًا، وتمر عبر القناة 40% من الحاويات الأمريكية سنويًا.

لكن لا عقل ولا منطق ولا أي مبررات تسمح للرئيس الأمريكي أن يجعل قناة السويس في جملة مفيدة بأحقية مرور سفنهم دون مقابل، وهي القناة التي جدد المصريون معها آمالهم مع الجمهورية الجديدة، بعد عقود من الاضطراب وسنوات صعبة، فكانت قناة السويس في ثوبها الجديد انعكاسًا لمراحل فارقة من تاريخ الوطن، لا مجرد ممر مائي عالمي يربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، وارتبطت بها الآمال في مشاريع اقتصادية كبيرة وجديدة.

ومن ثم فإن مثل هذا التصريح يعد استفزازًا لشعب مصر كله، فضلا عن أن تصريح ترامب غير مسئول، وليست له أي وجاهة من واقع خضوع القناة لاتفاقية القسطنطينية لعام 1888، التي تكفل حرية الملاحة للدول كافة، ولكن برسوم موحدة، فهذا التصريح إذن يعد تجاوزًا غير مقبول من جميع النواحي، تجاه شريان حيوي للتجارة العالمية يخضع لسيادة مصرية كاملة والنظام قانون مصري راسخ يستند إلى لوائح تنظيمية دقيقة وتشريعات واضحة وضوح الشمس، ولا توجد في هذه التشريعات ولا اللوائح أي بند يمنح أي دولة، مهما كانت، استثناءً خاصًا تعفى بموجبه من رسوم العبور، سوى استثناءات خاصة جدًا، وفي الضرورة القصوى، مثل الاستثناءات المتعلقة بسفن الإنقاذ.

في الواقع كل يوم، بل كل ساعة يثبت الرئيس الأمريكي، العائد بالخيبات حتى على بلاده، أنه ليس أهلا للحكم أو للسياسة، فلن تتغير تلك العنترية والقرارات والتصريحات غير المحسوبة مادام أنه يدير الدولة والشئون الخارجية والداخلية بمنطق تجاري فاسد، وبمنطق المالك للقرار الأوحد، مما يرجع زيادة المطالبات بإبعاده عن السلطة من قبل الأمريكيين أنفسهم، الذين يرون أنهم سقطوا في هوة كبيرة بمجيئه على رأس السلطة.

Add Your Comment